وفي القطار يكون للأنس معنى آخر ومذاق خاص ..
صهيل صافرة القطار يداعب شجن الروح ويبعث
فرحاً يافعاً داخل النفس.
إذا أنه إيذان ببدء رحلة.
تنتظرها النفس بشغف وشوق..
وقبله قطعاً جرس المحطة يعانق آذان المسافرين..
رحلة تأخذ الإنسان بين الوديان والأنهار والجبال ..
أمام ناظرنا تمتد رمال الصحراء بلونها الذهبي..
وهناك شجيرة وحيدة في أعماق الصحراء القاحلة
كأنها تشتكي لنا الوحشة والوحدة ..
وهناك علي
عمود من أعمدة الهاتف يقف عليه نسر شامخ
يزهو كبرياءاً وعزة ..
وكأنما يقول لنا أن حريته
دونها كل شئ ..
حتى ولو عاش في فيافي الصحارى
القاحلة المجدبة ..
وهناك الجبال ، تقف بطولها
الفارع وصمودها الجسور لتقول لنا أن الصمود
هو إكسير الحياة ..
ورويدا رويدا يغطيها شبح الظلام ويبتلعها الليل
المخيف فتتلاشى كل تفاصيل وكيانات وشخوص
الأشياء التي كانت لا تغيب عنا أعيننا في ساعات
النهار ..
وحين تغيب عنا نتحسر عليها كثيرا وكأننا
قد فقدنا إنساناً عزيزا كان ملء العين والبصر..
جمال القطار يكمن في احتضانه الأبدي لقضبان
السكة الحديد ..
فهي روحه وشريانه ..
حياته
وأمله .. يا لروعة المشهد حين ينبعث صوتاً
شجيّاً كأنه نغم موسيقي مدوزن صاغه ملحن ماهر
ينبعث من القضبان وعجلات القطار يحكي عن
العلاقة الأزلية بينهما ..
جمال القطار يكمن في أنه يحتضن بين أكنافه كل
طبقات المجتمع ..
الفقير والغني ، الرأسمالي والعامل..
جمال القطار يكمن في خلق علاقات اجتماعية طيبة
يكتنفها الضحك والأنس النبيل ..
وحين يهم أحد
المسافرين بالنزول لأنه قد وصل لمرابع أهله وطفولته
يعتصرنا ألم لفراقه ونظل نبذل المواعيد والعهود
بأننا إن شاءالله العظيم سيجمعنا اللقاء مرة أخرى ..
سألني أحد الأصدقاء :الا ترى أن جمال القطار هذا يشرخه
شئ واحد وذلك أن القطار يمثل مثالاً صارخاً للتفاوت
الطبقي ..
فالغني يركب في الدرجات الراقية والفقير
يركب في الدرجات الوضيعة ..
قلت له : ولكنه يساوي
بين هذه الطبقات في الوصول إلي المحطة الأخيرة حتى
وإن تأخر يوماً كاملاً ..
وللسويعات التي نقضيها داخل القطار نكهة خاصة ،
فهذا بائع الشاي والقهوة يحمل أغراضه جميعا ..
وفي كل محطة يحط القطار فيها رحاله ، نرى بائعي
الطعام والفواكه ينادون بصوت جميل لكيما يستثيروا
فينا الرغبة للشراء ..
القطار كما العمر ..
يمضي إلي نهاياته الحتمية عبر محطاته..
إلي أن يصل إلي المحطة النهائية ..
وحينها ينتهي كل
شئ وتظل الذكريات التي قضيناها داخله محفورة في
ثنايا الروح بمداد من ذهب ..
فلنجعل كل لحظة من محطات عمرنا مليئة بالجمال
وحب الآخرين وإيثار الغير وزرع الفرح والسعادة
في نفوس الآخرين ..
وقبل هذا وذاك لابد أن نقوّم
أنفسنا :
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسان ..