ومـا ورد فـي الايـة مـن ان اكثرهم ينقضون العهد انما هو من باب رعاية حال الاقليات التي آمنت بالانبياءالسابقين , وبقيت وفية لهم , وهذه الجماعات المؤمنة وان كانت قليلة وضئيلة العدد جدا بحيث انـها ما كانت تتجاوزاحيانا اءسرة واحدة . ولكن روح الواقعية وتحري الحق المتجلية في كل آيات الـقـرآن اوجبت ان لا يتجاهل القرآن الكريم حق هذه الجماعات القليلة او الافراد المعدودين , بل يراعيها فلا يصف جميع الافراد في المجتمعات السالفة بالانحراف والضلال ونقض العهد والفسق .
وهذا موضوع جميل جدا, وجدير بالاهتمام , وهو ما نشاهده ونلحظه في آيات القرآن كثيرا.
الايات 103 - 108:
ثم بعثنا من بعدهم موسى بايتنا الى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عقبة المفسدين وقال موسى يفرعون انى رسول من رب العلمين حقيق على اءن لا اءقول على اللّه الا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فاءرسل معى بنى اسرئيل قال ان كنت جئت باءية فاءت بها ان كنت من الصدقين فاءلقى عصاه فاذا هى ثعبان مبين ونزع يده فاذا هى بيضاء للنظرين التفسير المواجهة بين موسى وفرعون : بعد ذكر قصص ثلة من الانبياء العظام باختصار في الايات السابقة بين تعالى في هذه الايات والايات الكثيرة اللاحقة قصة موسى بن عمران , وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة امره .
وعـلـة بيان هذه القصة بصورة اكثر تفصيلا من قصص الانبياء الاخرين في هذه السورة قد تكون لاجل ان اليهوداتباع موسى بن عمران كانوا اكثر من غيرهم في بيئة نزول القرآن , وكان ارشادهم الى الاسلام اوجب . ((66)) وثانيا:لان قيام النبي الاكرم كان اشبه بقيام موسى بن عمران من غيره من الانبياء.
وعـلـى كـل حـال فـان هذه القصة الزاخرة بالعبر قد اشير الى فصول اءخرى منها ايضا في سور اءخرى , مثل : سورة البقرة , طه , الشعراء, النمل , القصص , وسور اءخرى , ولو اءننا درسنا آيات كل سـورة عـلـى حـدة , ثم وضعناها جنبا الى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصوره البعض , بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة مايناسبها من البحث للاستشهاد به . وحيث ان مصر كانت اوسع , وكان لشعبها حضارة اكثر تقدما من قوم نوح وهودوشعيب وما شابههم , وكانت مـقـاومة الجهاز الفرعوني - بنفس النسبة - اكثر واكبر, ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران باهمية اكـبـر, وحوى عبرا ونكات اكثر, وقد ركز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني اسرائيل بمناسبات مختلفة .
وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النبي الالهي العظيم في خمس دورات ومراحل : ا - مرحلة الولادة , وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعون .
2 - مرحلة فراره من مصر, وحياته في ارض مدين في كنف النبي شعيب (ع ).
3 - مرحلة بعثته , ثم المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه .
4 - مرحلة نجاته ونجاة بني اسرائيل من مخالب فرعون , والحوادث التي جرت عليه في الطريق , وعند وروده الى بيت المقدس .
5 - مرحلة مشاكله مع بني اسرائيل .
ويـجب الانتباه الى ان القرآن الكريم تناول في كل سورة من سور قسما - او عدة اقسام - من هذه المراحل الخمس .
ومـن تـلك الايات التي تناولت جوانب من قصة موسى (ع ) هذه الايات , وعشرات الايات الاخر من هـذه السورة , وهي تشير الى مراحل مابعد بعثة موسى بن عمران بالنبوة . ولهذا فاننا نوكل الابحاث الـمـتـعـلقة بالمراحل السابقة على هذه المرحلة الى حين تفسير الايات المرتبطة بتلك الاقسام في السور الاخرى , وبخاصة سورة القصص .
فـي الايـة الاولـى مـن الايـات الحاضرة يقول تعالى : (ثم بعثنا من بعدهم موسى باياتنا الى فرعون وملائه ) اي من بعد قوم نوح وهود وصالح .
ويـجـب الالـتفات الى ان فرعون اسم عام , وهو يطلق على كل ملوك مصر, كما يطلق على ملوك الروم قيصروملوك فا كسرى .
ولـفـظة الملا - كما اشرنا الى ذلك فيما سبق - تعني الاعيان والاشراف الذين يملاون ببريقهم وظواهرهم الباذخة العيون , ولهم حضور ملفت للنظر في جميع ميادين المجتمع .
والـسـر في ارسال موسى في بداية الدعوة الى فرعون وملاه هو انه علاوة على ان احدى برامج موسى كان هونجاة بني اسرائيل من براثن استعمار الفراعنة وتخليصهم من ارض مصر - وهذا لا يمكن ان يتم من دون الحوار مع فرعون - انما هو لاجل ان المفاسد الاجتماعية وانحراف البيئة لا تـعـالـج بـمـجرد الاصلاحات الفردية والموضعية فقط, بل يجب ان يبدا باصلاح رؤوس المجتمع وقـادته الذين يمسكون بازمة السياسة والاقتصاد والثقافة , حتى تتهيا الارضية لاصلاح البقية , كما يقال عرفا: ان تصفية الماء يجب ان تكون من المنبع .
وهذا هو الدرس الذي يعطيه القرآن الكريم لجميع المسلمين , لاصلاح المجتمعات الاسلامية .
ثم يقول تعالى : (فظلموا بها).
ونـحـن نـعلم ان لفظ الظلم بالمعنى الواسع للكلمة هو: وضع الشي ء في غير محلة , ولا شك في ان الايـات الالـهـية توجب ان يسلم الجميع لها, وبقبولها يصلح الانسان نفسه ومجتمعه , ولكن فرعون وملاه بانكارهم لهذه الايات ظلموا هذه الايات .
ثم يقول تعالى في ختام الاية : (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ).
وهـذه العبارة اشارة اجمالية الى هلاك فرعون وقومه الطغاة المتمردين , الذي سياتي شرحه فيما بعد.
وهـذه الاية تشير اشارة مقتضبة الى مجموع برنامج رسالة موسى , وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة امرهم .
اما الايات اللاحقه فتسلط الاضواء بصورة اكثر على هذا الموضوع .
فيقول اولا: (وقال موسى يا فرعون اني رسول من رب العالمين ).
وهـذه هي اول مواجهة بين موسى وبين فرعون , وهي صورة حية وعملية من الصراع بين الحق والباطل .
والـطـريـف ان فـرعـون كانه كان ينادى لاول مرة ب يا فرعون وهو خطاب رغم كونه مقرونا برعاية الادب , خال عن اي نوع من انواع التملق والتزلف واظهار العبودية والخضوع , لان الاخرين كانوا يخاطبونه عادة بالفاظ فيهاالكثير من التعظم مثل : يا مالكنا, يا سيدنا, يا ربنا, وما شابه ذلك .
وتـعـبير موسى هذا, كان يمثل بالنسبة الى فرعون جرس انذار وناقوس خطر. هذا مضافا الى ان عبارة موسى (اني رسول من رب العالمين ) كانت - في الحقيقة - نوعا من اعلان الحرب على جميع تشكيلات فرعون , لان هذاالتعبير يثبت ان فرعون و نظراءه من ادعياء الربوبية يكذبون جميعا في ادعائهم , وان رب العالمين هو اللّه فقط, لافرعون ولا غيره من البشر.
وفـي الاية اللاحقة نقرا ان موسى عقيب دعوى الرسالة من جانب اللّه قال : فالان اذ انا رسول رب العالمين ينبغي الا اقول عن اللّه الا الحق , لان المرسل من قبل اللّه المنزه عن جميع العيوب لا يمكن ان يكون كاذبا (حقيق علي ان لا اقول على اللّه الا الحق ).
ثم لاجل توثيق دعواه للنبوة , اضاف : انا لا ادعي ما ادعيه من دون دليل , بل ان معي ادلة واضحة من جانب اللّه (قد جئتكم ببينة من ربكم ).
فاذا كان الامر هكذا (فارسل معي بني اسرائيل ).
وكـان هـذا فـي الـحـقـيـقة قسما من رسالة موسى بن عمران الذي حرر بني اسرائيل من قبضة الاسـتعمار الفرعوني ,ووضع عنهم اصرهم واغلال العبودية التي كانت تكبل ايديهم وارجلهم , لان بني اسرائيل كانوا في ذلك الزمان عبيدااذلاء بايدي القبطيين (اهالي مصر) فكانوا يستفيدون منهم في القيام بالاعمال السافلة والصعبة والثقلية .
ويـسـتـفاد من الايات القادمة - وكذا الايات القرآنية الاخرى بوضوح وجلاء ان موسى كان مكلفا بـدعـوة فـرعـون وغيره من سكان ارض مصر الى دينه , يعني ان رسالته لم تكن منحصرة في بني اسرائيل .
فـقـال فـرعون بمجرد سماع هذه العبارة - (اي قوله : قد جئتكم ببينة ) - هات الاية التي معك من جانب اللّه ان كنت صادقا (قال ان كنت جئت باية فات بها ان كنت من الصادقين ).
وبهذه العبارة اتخذ فرعون - ضمن اظهار التشكيك في صدق موسى - هيئة الطالب للحق المتحري للحقيقة ظاهرا, كما يفعل اي متحر للحقيقة باحث عن الحق .
ومـن دون تاخير اخرج موسى معجزتيه العظميتين التي كانت احداهما مظهر الخوف والاخرى مـظـهر الامل وكانتا تكملان مقام انذاره ومقام تبشيره , والقى في البداية عصاه : (فالقى عصاه فاذا هي ثعبان مبين ) ((67)) .
والـتـعبير ب المبين اشارة الى ان تلك العصا التي تبدلت الى ثعبان حقا, ولم يكن سحرا وشعبذة وما شـاكـل ذلـك ,عـلـى الـعكس من فعل السحرة لانه يقول في شانهم : انهم مارسوا الشعبذة والسحر, وعملوا ما تصوره الناس حيات تتحرك , وما هي بحيات حقيقة وواقعا.
ان ذكر هذه النقطة امر ضروري , وهي اننا نقرا في الاية (10) من سورة النمل , والاية (31) من سورة القصص ,ان العصا تحركت كالجان , و الجان هي الحيات الصغيرة السريعة السير, وان هذا التعبير لا ينسجم مع عبارة ثعبان التي تعني الحية العظيمة ظاهرا.
ولكن مع الالتفات الى ان تينك الايتين ترتبطان ببداية بعثة موسى , والاية المبحوثة هنا ترتبط بحين مـواجـهـتـه لـفرعون , تنحل المشكلة , وكان اللّه اراد ان يوقف موسى على هذه المعجزة العظيمة تدريجا فهي تظهر في البداية اصغر, وفي الموقف اللاحق تظهر اعظم .
هل يمكن قلب العصا الى حية عظيمة ؟ عـلى كل حال لا شك في ان تبديل العصا الى حية عظيمة معجزة , ولا يمكن تفسيرها بالتحليلات الـمادية المتعارفة , بل هي من وجهة نظر الالهي الموحد - الذي يعتبر جميع قوانين المادة محكومة للمشيئة الربانية - ليس فيها ما يدعو للعجب فلا عجب ان تتبدل قطعة من الخشب الى حيوان بقوة ما فوق الطبيعة .
ويجب ان لا ننسى ان جميع الحيوانات في عالم الطبيعة توجد من التراب , والاخشاب والنباتات هي الاخرى من التراب , غاية ما هنالك ان تبديل التراب الى حية عظيمة يحتاج عادة الى ملايين السنين , ولكن في ضوءالاعجاز تقصر هذه المدة الى درجة تتحقق كل تلك التحولات والتكاملات في لحظة واحـدة وبـسـرعة , فتتخذ القطعة من الخشب - التي تستطيع وفق الموازين الطبيعية ان تغير بهذه الصورة بعد مضي ملايين السنين - تتخذ مثل هذه الصورة في عدة لحظات .
والـذيـن يحاولون ان يجدوا لمعاجز الانبياء تفسيرات طبيعية ومادية - وينفوا طابعها الاعجازي , ويـظـهـروهـا في صورة سلسلة من المسائل العادية مهما كانت هذه التفاسير مخالفة لصريح الكتب الـسـمـاوية . ان هؤلاء يجب ان يوضحوا موقفهم : هل يؤمنون باللّه وقدرته ويعتبرونه حاكما على قـوانـين الطبيعة , ام لا؟ فاذا كانوا لا يؤمنون به وبقدرته , لم يكن كلام الانبياء ومعجزاتهم الا لغوا لديهم . واذا كانوا مؤمنين بذلك , فما الداعي لنحت , مثل هذه التفسيرات والتبريرات المقرونة بالتكلف والـمـخـالـفـة لصريح الايات القرآنية . (وان لم نر احدا من المفسرين - على ما بينهم من اختلاف السليقة - عمد الى هذا التفسير المادي , ولكن ما قلناه قاعدة كلية ).
ثم ان الاية اللاحقة تشير الى المعجزة الثانية للنبي موسى (ع ) التي لها طابع الرجاء والبشارة , يقول تعالى : (ونزع يده فاذا هي بيضاء للناظرين ).
نزع تعني في الاصل اخذ شي ء من مكان , مثلا اخذ العباءة من الكتف واللباس عن البدن يعبر عنه في اللغة العربية بالنزع فيقال : نزع ثوبه ونزع عباءته , وهكذا اخذ الروح من البدن يطلق عليه النزع .
وبهذه المناسبة قديستعمل في الاستخراج , وقد جاءت هذه اللفظة في الاية الحاضرة بهذا المعنى .
ومـع ان هـذه الايـة لـم يرد فيها اي حديث عن محل اخراج اليد, ولكن من الاية (32) من سورة الـقـصص (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء) يستفاد ان موسى كان يدخل يده في جيبه ثم يخرجها ولها بياض خاص , ثم تعود الى سيرتها وحالتها الاولى .
ونـقـرا فـي بعض الاحاديث والروايات والتفاسير ان يد موسى كانت مضافا الى بياضها تشع بشدة , ولكن الايات القرآنية ساكتة عن هذا الموضوع , مع عدم تناف بينهما.
ان هذه المعجزة والمعجزة السابقة حول العصا - كما قلنا سابقا - ليس لها جانب طبيعي وعادي , بل هـي مـن صـنـف خـوارق العادة التي كان يقوم بها الانبياء, وهي غير ممكنة من دون تدخل قوة فوق طبيعية في الامر.
وهـكـذا اراد مـوسـى باظهار هذه المعجزة ان يوضح هذه الحقيقة , وهي ان برامجه ليس لها جانب الـتـرهـيـب والـتهديد, بل الترهيب والتهديد للمخالفين والمعارضين , والتشويق والاصلاح والبناء والنورانية للمؤمنين .
الايات 109 - 112:
قـال الـملا من قوم فرعون ان هذا لسحر عليم يريد اءن يخرجكم من اءرضكم فماذا تاءمرون قالوا اءرجه واءخاه واءرسل فى المدآئن حشرين ياءتوك بكل سحر عليم التفسير بدء المواجهة : في هذه الايات جاء الحديث عن اول رد فعل لفرعون وجهازه في مقابل دعوة موسى (ع ) ومعجزاته .
الايـة الاولـى تـذكر عن ملا فرعون انهم بمجرد مشاهدتهم لاعمال موسى الخارقة للعادة اتهموه بـالـسـحـر, وقـالوا:هذا ساحر عليم ماهر في سحره : (قال الملا من قوم فرعون ان هذا لساحر عليم ).
ولـكـن يـستفاد من آيات سورة الشعراء الاية (34) ان هذا الكلام قاله فرعون حول موسى : (قال للملا حوله ان هذا لساحر عليم ).
ولكن لا منافاة بين هاتين الايتين , لانه لا يبعد ان يكون فرعون قال هذا الكلام في البداية , وحيث ان عـيون الملا كانت متوجهة اليه , ولم يكن لهذا الملا المتملق المتزلف هدف الا رضى رئيسه وسيده , ومـا يـنـعكس على محياه ,وما توحي به اشارته , كرر هو ايضا ما قاله الرئيس , فقالوا: اجل , ان هذا لساحر عليم .
وهذا السلوك لا يختص بفرعون وحواشيه , بل هو داب جميع الجبارين في العالم وحواشيهم .
ثم اضافوا: ان هدف هذا الرجل ان يخرجكم من وطنكم (يريد ان يخرجكم من ارضكم ).
يعني انه لا يهدف الا استعماركم واستثماركم , وان الحكومة على الناس , وغصب اراضي الاخرين , وهذه الاعمال الخارقة للعادة وادعاء النبوة كلها لاجل الوصول الى هذا الهدف .
ثم قالوا بعد ذلك : مع ملاحظة هذه الاوضاع فما هو رايكم : (فماذا تامرون )؟ يـعني انهم جلسوا يتشاورون في امر موسى , ويتبادلون الراي فيما يجب عليهم اتخاذه تجاهه , لان مادة امر لاتعني دائما الايجاب والفرض , بل تاتي -ايضا - بمعنى التشاور.
وهـنـا لابد من الالتفات الى ان هذه الجملة وردت في سورة الشعراء الاية (35) ايضا, وذلك عن لسان فرعون ,حيث قال لملائه : فماذا تامرون . وقد قلنا: انه لا منافاة بين هذين .
وقـد احـتـمل بعض المفسرين - ايضا - ان تكون جملة فماذا تامرون في الاية الحاضرة خطابا وجـهـه ملافرعون وحاشيته الى فرعون , وصيغة الجمع انما هي لرعاية التعظيم , ولكن الاحتمال الاول - وهو كون هذاالخطاب موجها من ملا فرعون الى الناس - اقرب الى النظر.
وعلى كل حال فقد قال الجميع لفرعون : لا تعجل في امر موسى وهارون , واجل قرارك بشانهما الى مـا بـعـد,ولـكـن ابعث من يجمع لك السحرة من جميع انحاء البلاد (قالوا ارجه واخاه وارسل في المدائن حاشرين ).
نعم ابعث من يجمع لك كل ساحر ماهر في حرفته عليم في سحره (ياتوك بكل ساحر عليم ).
فهل هذا الاقتراح من جانب حاشية فرعون كان لاجل انهم كانوا يحتملون صدق ادعاء موسى للنبوة , وكانوايريدون اختباره ؟ او انـهـم عـلى العكس كانوا يعتبرونه كاذبا في دعواه , ويريدون افتعال ذريعة سياسية لاي موقف سيتخذونه ضدموسى كما كانوا يفعلون ذلك في بقية مواقفهم ونشاطاتهم الشخصية ؟ ولهذا اقترحوا ارجـاء امر قتل موسى واخيه نظرا لمعجزتيه اللتين اورثتا رغبة في مجموعة كبيرة من الناس في دعوته وانحيازهم اليه , ومزجت صورة نبوته بصورة المظلومية والشهادة واضفت بضم الثانية الى الاولى - مسحة من القداسة والجاذبية عليه وعلى دعوته .
ولـهذا فكروا في بداية الامر في اجهاض عمله باعمال خارقة للعادة مماثلة , ويسقطوا اعتباره بهذه الطريقة , ثم يامرون بقتله لتنسى قصة موسى وهارون وتمحى عن الاذهان الى الابد.
يبدو ان الاحتمال الثاني بالنظر الى القرائن الموجودة في الايات - اقرب الى النظر.
الايات 113 - 122:
وجـاء الـسـحـرة فرعون قالوا ان لنا لا جرا ان كنا نحن الغلبين قال نعم وانكم لمن المقربين قالوا يـمـوسـى امـا اءن تـلـقـى وامـا اءن نـكون نحن الملقين قال اءلقوا فلما اءلقوا سحروا اءعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم واءوحينا الى موسى اءن اءلق عصاك فاذا هى تلقف ما يافكون فوقع الـحـق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صغرين واءلقى السحرة سجدين قالوا ءامنا برب العلمين رب موسى وهرون التفسير كيف انتصر الحق في النهاية ؟ فـي هـذه الايـات جـرى الحديث حول المواجهة بين النبي موسى (ع ), وبين السحرة , وما آل اليه امرهم في هذه المواجهة , وفي البداية تقول الاية : ان السحرة بادروا الى فرعون بدعوته , وكان اول مـا دار بـينهم وبين فرعون هو:هل لنا من اجر اذا غلبنا العدو (وجاء السحرة فرعون قالوا ان لنا لاجرا ان كنا نحن الغالبين )؟ وكـلمة الاجر وان كانت تعني اي نوع من انواع الثواب , ولكن نظرا الى ورودها هنا في صورة النكرة ,والنكرة في هذه الموارد انما تكون لتعظيم الموضوع وابراز اهميته بسبب اخفاء ماهيته ونوعيته , لهذا يكون الاجرهنا بمعنى الاجر المهم والعظيم وبخاصة انه لم يكن ثمة نزاع في اصل استحقاقهم للاجر والمثوبة , فالمطلوب من فرعون هو الوعد باعطائهم اجرا عظيما وعوضا مهما.
فـوعـدهـم فـرعـون - فـورا - وعدا جيدا وقال : انكم لن تحصلوا على الاجر السخي فقط, بل ستكونون من المقربين عندي (قال نعم وانكم من المقربين ).
وبـهـذه الطريقة اعطاهم وعدا بالمال ووعدا بمنصب كبير لديه , ويستفاد من هذه الاية ان التقرب الـى فرعون في ذلك المحيط, وتلك البيئة كان اعلى واسمى واهم من المال والثروة , لانه كان يعني منزلة معنوية كان من الممكن ان تصبح منشا لاموال كثيرة وثروات كبيرة .
وفي المال حدد موعد معين لمواجهة السحرة لموسى , وكما جاء في سورة طه والشعراء دعي جميع الناس لمشاهدة هذا النزال , وهذا يدل على ان فرعون كان مؤمنا بانتصاره على موسى (ع ).
وحـل الـيـوم الموعود, وهيا السحرة كل مقدمات العمل ... حفنة من العصى والحبال التي يبدو انها كـانـت مـعبئة بمواد كيمياوية خاصة , تبعث على حركتها اذا سطعت عليها الشمس , لانها تتحول الى غازات خفيفة تحرك تلك العصي والحبال المجوفة .
وكـانـت واقـعـة عـجـيبة , فموسى وحده (ليس معه الا اخوه ) يواجه تلك المجموعة الهائلة من الـسـحـرة , وذلـك الـحشد الهائل من الناس المتفرجين الذين كانوا على الاغلب من انصار السحرة ومؤيديهم .
فالتفت السحرة في غرور خاص وكبير الى موسى (ع ) وقالوا: اما ان تشرع فتلقي عصاك , واما ان نشرع نحن فنلقي عصينا؟ (قالوا ياموسى اما ان تلقى واما ان نكون نحن الملقين ).
فقال موسى (ع ) بمنتهى الثقة والاطمئنان : بل اشرعوا انتم (قال القوا).
وعـندما القى السحرة بحبالهم وعصيهم في وسط الميدان سحروا اعين الناس , واوجدوا باعمالهم واقـاويـلـهم المهرجة ومبالغاتهم وهرطقاتهم خوفا في قلوب المتفرجين , واظهروا سحرا كبيرا رهيبا: (فلما القوا سحروا اعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم ).
وكـلـمـة الـسحر - كما مر في المجلد الاول من هذه الموسوعة التفسيرية , عند تفسير الاية (102) مـن سـورة الـبـقرة - تعني في الاساس الخداع والشعبذية , وقد يطلق ايضا على كل عامل غامض , ودافع غير مرئي .
وعـلـى هـذا الاسـاس , فـان هذه الجماعة كانت توجد افعالا عجيبة بالاعتماد على سرعة حركة الايدي , والمهارة الفائقة في تحريك الاشياء لتبدو وكانها امور خارقة للعادة وكذلك الاشخاص الذين يـسـتفيدون من الخواص الكيمياوية والفيزياوية الغامضة الموجودة في الاشياء والمواد, فيظهرون اعمالا مختلفة خارقة للعادة . كل هؤلاءيدخلون تحت عنوان الساحر.
هـذا عـلاوة على ان السحرة يستفيدون - عادة - من سلسلة من الايحاءات المؤثرة في مستميعهم , ومـن الـعـبـارات والجمل المبالغة , وربما الرهيبة المخوفة لتكميل عملهم , والتي تترك آثارا جد عجيبة في مستمعيهم ومتفرجيهم وجمهورهم .
ويـسـتـفاد من آيات مختلفة في هذه السورة ومن سور قرآنية اءخرى حول قصة سحرة فرعون , انهم استخدمواكل هذه العوامل والادوات , وعبارة سحروا اعين الناس وجملة استرهبوهم او تعبيرات اءخرى في سور طه والشعراء جميعها شواهد على هذه الحقيقة .
..
بحوث وهنا لابد من الاشارة الى نقطتين : 1 - المشهد العجيب لسحر الساحرين لقد اشار القرآن الكريم اشارة اجمالية من خلال عبارة (وجاؤوا بسحر عظيم ) الى الحقيقة التالية وهي : ان المشهد الذي اوجده السحرة كان عظيما ومهما, ومدروسا ومهيبا, والا لما استعمل القرآن الكريم لفظة عظيم هنا.
ويستفاد من كتب التاريخ ومن روايات واحاديث المفسرين في ذيل هذه الاية , وكذا من آيات مشابهة -بوضوح - سعة ابعاد ذلك المشهد.
فبناء على ما قاله بعض المفسرين كان عدد السحرة يبلغ عشرات الالوف , وكانت الاجهزة والوسائل الـمـسـتعملة كذلك تبلغ عشرات الالاف , ونظرا الى ان السحرة المهرة والمحترفين لهذا الفن في مصر كانوا في ذلك العصر كثيرين جدا, لهذا لا يكون هذا الكلام موضع استغراب وتعجب . خاصة ان الـقرآن الكريم في سورة طه الاية (67) يقول
فاوجس في نفسه خيفة موسى ) اي ان المشهد كـان عـظـيـما جدا ورهيبا الى درجة ان موسى شعر بالخوف قليلا, وان كان ذلك الخوف -حسب تـصريح نهج البلاغة - ((68)) لاجل انه خشي ان من الممكن ان يتاثر الناس بذلك المشهدالعظيم , فيكون ارجاعهم الى الحق صعبا, وعلى اي حال فان ذلك يكشف عن عظمة ذلك المشهد ورهبته .
2 - الاستفادة من السلاح المشابه من هذا البحث يستفاد - بجلاء ووضوح - ان فرعون بالنظر الى حكومته العريضة في ارض مصر, كانت له سياسات شيطانية مدروسة , فهو لم يستخدم لمواجهة موسى واخيه هارون من سلاح التهديد والارعـاب , بل سعى للاستفادة من اسلحة مشابهة - كما يظن - في مواجهة موسى , ومن المسلم انه لـو نجح في خطته لما بقي من موسى ودينه اي اثر او خبر, ولكان قتل موسى (ع ) في تلك الصورة امـرا سـهـلا جـدا, بـل ومـوافقا للراي العام , جهلا منه بان موسى لا يعتمد على قوة انسانية يمكن مـعـارضـتـهـا ومقاومتها, بل يعتمد على قوة ازلية الهية مطلقة , تحطم كل مقاومة ,وتقضي على كل معارضة .
وعـلـى ايـة حـال , فان الاستفادة من السلاح المشابه افضل طريق للانتصار على العدو المتصلب , وتحطيم القوى المادية .
فـي هـذه اللحظة التي اعترت الناس فيها حالة من النشاط والفرح , وتعالت صيحات الابتهاج من كل صـوب ,وعلت وجوه فرعون وملائه ابتسامة الرضى , ولمع في عيونهم بريق الفرح , ادرك الوحي الالـهـي مـوسى (ع ) وامره بالقاء العصى , وفجاة انقلب المشهد وتغير, وبدت الدهشة على الوجوه , وتـزعـزت مفاصل فرعون واصحابه كما يقول القرآن الكريم : (واوحينا الى موسى ان الق عصاك فاذا هي تلقف مايافكون ).
وتلقف مشتقة من مادة لقف (على وزن سقف ) بمعنى اخذ شى ء بقوة وسرعة , سواء بواسطة الفم , والاسـنان ,او بواسطة الايدي , ولكن تاتي في بعض الموارد بمعنى البلع والابتلاع ايضا, والظاهر انها جاءت في الاية الحاضرة بهذا المعنى .
و يـافـكون مشتقة من مادة افك على وزن مسك وهي تعني في الاصل الانصراف : عن الشي ء, وحيث ان الكذب يصرف الانسان من الحق اطلق على الكذب لفظ الافك .
وهـنـاك احتمال آخر في معنى الاية ذهب اليه بعض المفسرين , وهو ان عصا موسى بعد ان تحولت الـى حـية عظيمة لم تبتلع ادوات سحر السحرة , بل عطلها عن العمل والحركة واعادها الى حالتها الاولـى . وبـذلـك اوصد هذاالعمل طريق الخطا على الناس , في حين ان الابتلاع لا يمكنه ان يقنع الناس بان موسى لم يكن ساحرا اقوى منهم .
ولـكـن هذا الاحتمال لا يناسب جملة تلقف كما لا يناسب مطالب الاية , لان تلقف - كما اسلفنا - تعني اخذشي ء بدقة وسرعة لا قلب الشي ء وتغييره .
هـذا مضافا الى انه لو كان المقرر ان يظهر اعجاز موسى (ع ) عن طريق ابطال سحر السحرة , لم تكن حاجة الى ان تتحول العصى الى حية عظيمة , كما قال القرآن الكريم في بداية هذه القصة .
وبـغـض الـنـظر عن كل هذا, لو كان المطلوب هو ايجاد الشك والوسوسة في نفوس المتفرجين , لـكـانـت عـودة وسائل السحرة وادواتهم الى هيئتها الاولى -ايضا - قابلة للشك والترديد, لانه من الممكن ان يحتمل ان موسى بارع في السحر براعة كبرى بحيث انه استطاع ابطال سحر الاخرين واعادتها الى هيئتها الاولى .
بل ان الذي تسبب في ان يعلم الناس بان عمل موسى امر خارق للعاده , وانه عمل الهي تحقق بالاعتماد عـلـى الـقدرة والالهية المطلقة , هو انه كان في مصر آنذاك مجموعة كبيرة من السحرة الماهرين جدا, وكان اساتذه هذا الفن وجوها معروفة في تلك البيئة , في حين ان موسى الذي لم يكن متصفا باي واحدة من هذه الصفات , وكان - في الظاهر - رجلا مغمورا, نهض من بين بني اسرائيل , واقدم على مثل ذلك العمل الذي عجز امامه الجميع . ومن هناعلم ان هناك قوة غيبة تدخلت في عمل موسى , وان موسى ليس رجلا عاديا.
وفـي هـذا الـوقت ظهر الحق , وبطلت اعمالهم المزيفة (فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ). لان عـمـل موسى كان عملا واقعيا, وكانت اعمالهم حفنة من الحيل ومن اعمال الشعبذة , ولا شك انه لا يستطيع اي باطل ان يقاوم الحق دائما.
وهذه هي اول ضربة توجهت الى اساس السلطان الفرعوني الجبار.
ثـم يقول تعالى في الاية اللاحقة : وبهذه الطريقة ظهرت آثار الهزيمة فيهم , وصاروا جميعا اذلاء: (فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ).
وبـالـرغم من ان المؤرخين ذكروا في كتب التاريخ قضايا كثيرة حول هذه الواقعة , ولكن حتى من دون نقل ماجاء في التواريخ يمكن الحدس ايضا بما حدث في هذه الساعة من اضطراب في الجماهير الـمـتـفـرجة ... فجماعة خافوا بشدة بحيث انهم فروا وهربوا, واخذ آخرون يصيحون من شدة الفزع , وبعض اءغمي عليه .
واخـذ فـرعون وملاه ينظرون الى ذلك المشهد مبهوتين مستوحشين , وقد تحدرت على وجوههم قطرات العرق من الخجل والفشل , فاجموا يفكرون في مستقبلهم الغامض المبهم , ولم يدر في خلدهم انهم سيواجهون مثل هذاالمشهد الرهيب الذي لا يجدون له حلا .
والـضـربة الاقوى كانت عندما تغير مشهد مواجهة السحرة لموسى (ع ) تغييرا كليا, وذلك عندما وقع السحرة فجاة على الارض ساجدين لعظمة اللّه (والقي السحرة ساجدين ).
ثم نادوا باعلى صوتهم و (قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ).
وبذكر هذه الجملة بينوا - بصراحة - الحقيقة التالية وهي : اننا آمنا برب هو غير الرب المختلق , المصطنع , انه الرب الحقيقي .
بل لم يكتفوا بلفظة رب العالمين ايضا, لان فرعون كان يدعي انه رب العالمين , لهذا اضافوا: رب موسى وهارون حتى يقطعوا الطريق على كل استغلال .
ولـم يـكن فرعون والملا يتوقعون هذا الامر مطلقا, يعني ان الجماعة التي كان يعلق الجميع آمالهم عـلـيـهـا لـلقضاءعلى موسى و دعوته , اصبحت في الطليعة من المؤمنين بموسى ودعوته , ووقعوا ساجدين للّه امام اعين الناس عامة ,واعلنوا عن تسليمهم المطلق وغير المشروط لدعوة موسى (ع ).
عـلـى ان هـذا الـموضوع الذي غير اناسا بمثل هذه الصورة , يجب ان لا يكون موضوع استغراب وتـعـجـب , لان نـورالايـمـان والتوحيد موجود في جميع القلوب , ويمكن ان تخفيه بعض الموانع والحجب الاجتماعية مدة طويلة اوقصيرة , ولكن عندما تهب بعض العواصف بين حين وآخر تنزاح تلك الحجب , ويتجلى ذلك النور وياخذبالابصار.
وبـخاصة ان السحرة المذكورين كانوا اساتذة مهرة في صناعتهم , وكانوا اعرف من غيرهم بفنون عـمـلهم ورموزسحرهم , فكانوا يعرفون - جيدا - الفرق بين المعجزة والسحر فالامر الذي يحتاج الاخرون لمعرفته الى المطالعة الطويلة والدقة الكبيرة , كان واضحا عند السحرة وبينا, بل اوضح وابين من الشمس في رابعة النهار.
انهم مع معرفتهم بفنون ورموز السحر الذي تعلموه طوال سنوات , عرفوا وادركوا ان عمل موسى لـم يكن يشبه - ابدا - السحر, وانه لم يكن نابعا من قدرة البشر, بل كان نابعا من قدرة فوق الطبيعة وفـوق البشر, وبذلك لا مجال للاستغراب والتعجب في اعلانهم ايمانهم بموسى بمثل تلك السرعة والصراحة والشجاعة وعدم الخوف من المستقبل .
وجملة القى السحرة التي جاءت في صيغة الفعل المبني للمجهول , شاهد ناطق على الاستقبال البالغ لـدعـوة موسى وتسليم السحرة المطلق له (ع ). يعني ان جاذبية موسى كان لها من الاثر القوي البالغ في قلوب ونفوس اءولئك السحرة , بحيث انهم سقطوا على الارض من دون اختيار, ودفعهم ذلك الى الاقرار والاعتراف .
الايات 123 - 126:
قـال فـرعـون ءامـنتم به قبل اءن ءاذن لكم ان هذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منهااءهلها فـسوف تعلمون لا قطعن اءيديكم واءرجلكم من خلف ثم لا صلبنكم اءجمعين قالوا اناالى ربنا منقلبون وما تنقم منا الا اءن ءامنا باءيت ربنا لما جاءتنا ربنا اءفرغ علينا صبراوتوفنا مسلمين التفسير التهديدات الفرعونية الجوفاء: عـنـدمـا تـوجـهت ضربة جديدة - بانتصار موسى على السحرة وايمانهم به - الى اركان السلطة الـفـرعـونية ,استوحش فرعون واضطرب بشدة وراى انه اذا لم يظهر اي رد فعل في مقابل هذا المشهد, فسيؤمن بموسى كل الناس او اكثرهم , وستكون السيطرة على الاوضاع غير ممكنة , لهذا عمد فورا الى عملين مبتكرين : فـي الـبـدايـة وجـه اتـهـامـا (لعله مرغوب عند السواد من الناس ) الى السحرة , ثم هددهم باشد التهديدات , ولكن على العكس من توقعات فرعون اظهر السحرة مقاومة عجيبة تجاه هذين الموقفين , مـقـاومـة اغرقت فرعون وجهازه في تعجب شديد, وافشلت جميع خططه . وبهذه الطريقة وجهوا ضربة ثالثة الى اركان السلطان الفرعوني المتزلزل ,وقد رسمت الايات اللاحقة هذا المشهد بصورة رائعة .
فـي البداية يقول : ان فرعونا قال للسحرة : هل آمنتم بموسى قبل ان آذن لكم (قال فرعون آمنتم به قبل ان آذن لكم )؟ وكـان الـتـغيير ب به لاجل تحقير موسى والازدراء به , وكانه بجملة قبل ان آذن لكم اراد ان يظهر انه يتحرى الحقيقة ويطلب الحق , فلو كان عمل موسى (ع ) يتسم بالحقيقة والواقعية لاذنت انا للناس بان يؤمنوا به , ولكن استعجالكم اكشفت عن زيفكم , وان هناك مؤامرة مبينة ضد شعب مصر.
وعـلـى اية حال , افادت الجملة اعلاه ان فرعون الجبار الغارق في جنون السلطة كان يدعي ان لا يـحـق لـلـشعب ان يتصرف او يعمل او يقول شيئا من دون اجازته واذنه , بل لا يحق لهم ان يفكروا ويؤمنوا بدون امره واذنه ايضا وهـذه هي اعلى درجات الاستعباد والاستحمار, ان يكون شعب من الشعوب اسيرا وعبدا بحيث لا يحق له حتى التفكير والايمان القلبي باحد او بعقيدة .
وهـذا هـو البرنامج الذي يواصله الاستعمار الجديد, يعني ان المستعمرين لا يكتفون بالاستعمار الاقتصادى والسياسي والاجتماعي , بل يسعون الى تقوية جذورهم عن طريق الاستعمار الفكري .
وتـتـجـلـى مـظـاهـر هذا الاستعباد الفكري في البلاد الشيوعية اكثر فاكثر, بالحدود المغلقة , والاسوار الحديدية والرقابة الشديدة المفروضة على كل شي ء, وبخاصة على الاجهزة الثقافية .
ولكن في البلاد الراسمالية الغربية التي يظن البعض انه لا يوجد استعباد فكري وثقافي على الاقل وان لـكـل احـدان يـفـكـر ويختار بحرية , يمارس الاستعباد بنحو آخر, لان الراسماليين الكبار بـتـسـلـطـهم الكامل على الصحف المهمة ,والاذاعات , ومحطات التلفزيون , وجميع سبل الارتباط الـجـمـعي ووسائل الاعلام , يفرضون على المجتمع افكارهم وآراءهم في لباس الحرية الفكرية , ويـوجهون المجتمع - عن طريق عملية غسيل دماغ واسعة ومستمرة - الى الوجهة التي يريدون , وهذا بلاء عظيم يعاني منه عصرنا الحاضر.
ثم يضيف فرعون قائلا (ان هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها اهلها).
ونـظـرا الـى الاية (71) من سورة طه التي تقول (انه لكبيركم الذي علمكم السحر) يتضح ان مـراد فـرعـون هـو ان هـناك مؤامرة مدروسة وتواطؤا مبيتا قد دبرتموه قبل مدة للسيطرة على اوضـاع مـصـر واستلام زمام السلطة , لا انكم دبرتموه للتو وقبل قليل في لقاء محتمل بينكم وبين موسى .
ومن هنا يتضح ان المراد من المدينة هو مجموع القطر المصري , والالف واللام الف ولام الجنس , والـمراد من لتخرجوا منها اهلها هو تسلط موسى (ع ) وبني اسرائيل على اوضاع مصر, واقصاء حاشية فرعون واعوانه عن جميع المناصب الحساسة , او ابعاد بعضهم الى النقاط البعيدة من البلاد, والاية (110) في هذه السورة شاهدة على ذلك ايضا.
وعـلـى كـل حال , فان هذه التهمة كانت خاوية ومفضوحة , الى درجة انه لم يكن يقتنع بها الا العوام والجهلة من الناس , لان موسى (ع ) لم يكن حاضرا في مصر, ولم يلتق باحد من السحرة من قبل , ولو كـان اسـتاذهم وكبيرهم الذي علمهم السحر, لوجب ان يكون معروفا ومشهورا في جميع الاماكن , وان يـعـرفـه اكـثر الناس , وهذه لم تكن اءمورا يمكن اخفاؤها وكتمانها, لان التواطؤ مع اشخاص المنتشرين في شتى مناطق مصر على امر بهذا القدر من الاهمية غير ممكن عملا.
ثم ان فرعون هددهم بتهديد غامض ولكنه شديد ومحكم , اذ قال : (فسوف تعلمون ) وفـي الاية اللاحقة بين تفاصيل ذلك التهديد الذي هدد به السحرة فاقسم بان يقطع ايديهم وارجلهم ويصلبهم , اذقال : (لاقطعن ايديكم وارجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم اجمعين ).
وفـي الـحـقـيـقـة كـان مراده ان يقتلهم بالتعذيب والتنكيل , ويجعل من هذا المشهد الرهيب درسا لـلاخـريـن , لان قـطـع الايدي والارجل , ثم الصلب على الشجر امام الناس , ومنظر تدفق الدم من اجـسـامـهـم وما يرافق هذا من حالات النزع فوق المشانق الى ان يموتوا, سيكون عبرة لمن يعتبر (ولابـد مـن ملاحظة ان الصلب في ذلك الزمان لم يكن يتم على النحو الذي يتم به الان , وهو تعليق المشنوق بوضع الحبل في عنقه , بل كان الحبل يوضع تحت كتفيه حتى لايموت بسرعة ).
ولـعـل قـطـع اليد والرجل من خلاف , كان لاجل ان هذا العمل يتسبب في ان يموتوا بصورة ابطا, ويتحملوا قدرااكثر من الالم والعذاب .
والجدير بالتامل ان البرامج التي انتهجها فرعون لمكافحة السحرة الذين آمنوا بموسى , كانت برامج عـامة في مكافحة الجبارين وتعاملهم الوحشي الرخيص مع انصار الحق والمنادين به , فهم من جانب يـسـتخدمون حربة التهمة حتى يزعزعوا مكانة انصار الحق في نفوس الجماهير, ومن جانب آخر يتوسلون بسلاح القوة والقهر والتهديدلتحطيم ارادتهم , ولكن - كما نقرا في ذيل قصة موسى - لم يستطع هذان السلاحان ان يفعلا شيئا في نفوس انصارالحق , ولن يفعلا.
لقد قاوم السحرة كلتا حربتي فرعون , و اجابوه جواب رجل واحد: اننا نرجع الى ربنا اذن (قالوا انا الى ربنامنقلبون ).
يعني اذا تحقق تهديدك الثاني (وهو القتل ) فمعناه اننا سننال الشهادة في سبيل الدفاع عن الحق , وهذا لا يوجب ضررا علينا, ولا ينقصنا شيئا, بل يعد سعادة وفخرا عظيما لنا.
ثـم انـهم للرد على تهمة فرعون , ولايضاح الحقيقة لجماهير المتفرجين على هذا المشهد, واثبات بـراءتـهم من اي ذنب , قالوا: ان الاشكال الوحيد الذي تورده علينا هو اننا آمنا بايات اللّه وقد جاءتنا (وما تنقم منا الا ان آمنا بايات ربنا لما جاءتنا).
يـعـنـي اننا لسنا مشاغبين , ولا متامرين , ولا متواطئين ضدك , وليس ايماننا بموسى يعني اننا نريد استلام ازمة الحكم , ولا ان نخرج اهل هذه البلاد من ديارهم , وانت نفسك تعلم اننا لسنا بهذا الصدد, بل نحن عندما راينا الحق وشاهدنا علائمه بوضوح اجبنا داعي اللّه ولبينا نداءه وآمنا به , وهذا هو ذنبنا الوحيد في نظرك ليس غير.
وهكذا اظهروا لفرعون بالجملة الاولى انهم لا يخافون اي تهديد, وانهم يستقبلون جميع الحوادث والـتـبعات حتى الشهادة بمنتهى الشهامة . وبالجملة الثانية ردوا بصراحة على الاتهامات التي وجهها فرعون اليهم .
ان جملة تنقم مشتقة من مادة نقمة على وزن نعمة وهي في الاصل تعني رفض شي ء باللسان او بالعمل والعقوبة . وعلى هذا فان الاية اعلاه يمكن ان تكون بمعنى ان العمل الوحيد الذي تنكره علينا هو اننا آمنا, او يعني ان العقوبة التي تريد ان تعاقبنا بها انما هو لاجل ايماننا.