ماذا تقولون عن قوله صلى الله عليه وسلم عن كسوف الشمس والقمر: «هذه الْآيَاتُ التي يُرْسِلُ الله لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ , وَلَكِنْ يُـخَـوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ , فإذا رَأَيْتُمْ شيئا من ذلك فَافْزَعُوا إلى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ» ؟ و ماذا تقولون عما نسمعه من بعض العلماء , من قولهم : إن هذا الحديث يدل على أن الكسوف لا يقع إلا بسبب كثرة الذنوب والمعاصي .
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الاستدلال بهذا الحديث الصحيح على أن الكسوف لا يقع إلا بسبب كثرة الذنوب والمعاصي استدلالٌ غير صحيح ، فقوله صلى الله عليه وسلم عن كسوف الشمس والقمر: «يُـخَـوِّفُ الله به عبادَه» يقطع بوجوب حصول التخويف بالكسوف , ويقطع بوجوب أن يكون سببًا للوجل والرهبة من الله تعالى . لكنه لا يقطع بأن هذا التخويف حاصلٌ بسبب كثرة الذنوب والمعاصي ، وليس في الحديث النبويّ أيُّ لفظ ينصُّ على ذلك . فلا يصحُّ القطع بأن الكسوف لا يقع إلا بسبب الذنوب والمعاصي ؛ لأن هذا القطع والجزم لا دليل عليه أصلا . وإن حصل مثل هذا الخطأ من أحد أهل العلم , فهو خطأ , لا يصح أن نتردّد في بيان عدم استناده إلى ما يصححه . وأقصى ما يمكن أن يُقال إن هذا الفهم للحديث النبوي ظنٌّ واجتهاد, نعذر قائله على خطئه , لكننا لا نُصَوِّبَه عليه .
أما كيفيةُ تخويف الله تعالى عبادَه بالكسوف والخسوف , إذا لم يكن بسبب غضب الله تعالى من ذنوب عباده , فلها أكثر من وجه :
الأول : أنه قد يقع التخويف بالكسوف والخسوف من خلال التذكير بأن الله تعالى الذي أنعم علينا بهاتين النعمتين الكبيرتين (وهما الشمس والقمر) قادر على أن يحرمنا منهما , كما قال تعالى ((قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون – قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل أفلا تبصرون )) : [القصص: ٧١ – ٧٢] . فإن كان هذا المنعِمُ المتفضِّلُ سبحانه وتعالى هو صاحبَ كلِّ نعمةٍ وفضل , ومنها نعمة هذه الأجرام العظمى التي بها تسير أمور الدنيا وتنتظمُ أفلاكُها , فما أولاه بأعظم خوفٍ وأَجَلِّ تعظيم .
وفي الكسوف (وإن كان يحصل وَفْقَ نظامٍ دقيق , محسوب معروف) خروجٌ عما اعتاده الإنسانُ من ظهور هذه الأجرام وغيابها , ولذلك فهو يهزُّ النفسَ الحيّةَ ويُوقظها من غفلة الإلف والعادة , ليتذكّرَ عظيمَ الإنعام وسابغَ الإكرام الإلهي عليه , فيلجئه ذلك إلى تعظيم العظيم سبحانه , ولا تعظيمَ بغير الخوفِ من صاحب العظمة التي خلقت هذه الأجرام , ولا بغير الوَجَلِ من ذي الجلال سبحانه وتعالى الذي أنعم علينا بهذه النعم الكبيرة .
والثاني : أنه قد يقع التخويف بالكسوف والخسوف من خلال التذكير بيوم القيامة وبأهواله العظمى , والتي يُصوِّرُ الكسوفُ والخسوفُ مشهدًا مصغَّرًا منها . كما قال تعالى : ((يسأل أيان يوم القيامة - فإذا برق البصر – وخسف القمر – وجمع الشمس والقمر – يقول الإنسان يومئذ أين المفر)) [القيامة: ٦ - ١٠] , وقال تعالى ((إذا الشمس كورت – وإذا النجوم انكدرت [التكوير: ١ – ٢] . فيتم بالكسوف والخسوف تذكير بيوم القيامة ويوم الجزاء والحساب والأهوال , وأي يوم أحق أن يخشاه العبد أعظم من ذلك اليوم : يوم الفصل المحتوم .
وبهذين المعنيين يتمُّ فهم كيفية وقوع التخويف الذي أخبر النبي (ص) أن الله تعالى أوجبه على الناس بالكسوف والخسوف . ويتبين أن من ظن التخويف بهما لا يكون إلا بسبب عقاب الله تعالى المتوقع بسبب ذنوب العباد , وأنه دال على غضب الله تعالى لذلك = ظن بعيد عن الصواب ؛ لأنه لا النص دل عليه , ولا تنحصر أسباب التخويف (الوارد في النص) فيه .
وقد كان النبي ﷺ لعظيم خوفه من ربه سبحانه ولجليل وجله منه تعالى : يفزع إلى الله تعالى مما هو أهون من ظاهرة الكسوف وأكثر تكرُّرًا منها . كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها , قالت : كان النبي (ص) إذا رَأَى مَـخِـيلَةً [أي: سحابة] في السَّمَاءِ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ , وَدَخَلَ وَخَرَجَ , وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ . فإذا أَمْطَرَت السَّمَاءُ , سُرِّيَ عنه . فَعَرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذلك ؟ فقال النبي (ص) : ما أَدْرِي لَعَلَّهُ كما قال قَوْمٌ
(فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم)) [الأحقاف: ٢٤] . [متفق عليه] . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : «كانتِ الرِّيحُ إِذا هَبَّتْ عُرِفَ ذلك في وَجه رسولِ الله ﷺ» . أخرجه البخاري . فلا يمكن أن يقال : إن كل سحابة أو ريح تدلان على كثرة الذنوب ولا على كثرة المعاصي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاف من السحب والريح , حتى يطمئن إلى أنها جاءت لغير عقوبة !!
إذ مثل هذه النفس الطاهرة الزكية , وهي نفسُ سيِّدِ ولد آدم وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم, وهي نفسُ أخشى الناس لله تعالى وأتقاهم له سبحانه , لا يُستغرَبُ منها إذا ما سَبَّبَ لها الكسوفُ ذلك الفزعَ إلى الصلاة والدعاء والاستغفار . وإنّ مَن كان يعظِّمُ الله تعالى تعظيمًا يجعله يستغفر الله تعالى في كل يوم أكثر من سبعين مرة , ومائةَ مرة , كما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم , ومن كان يقف في قيام الليل حتى تتفطّر قدماه , وقد غفر الله تعالى له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر , فإذا سُئل عن كثرة عبادته , قال «أفلا أكون عبدًا شكورًا» = لا نستغرب منه أن يفزع عند الكسوف للصلاة والدعاء والاستغفار . ولن يكون في فزعه ذاك ولا في استغفاره ما يُوجب أن يكون فزعُه واستغفارُه دليلاً على كثرة الذنوب والمعاصي , ولا ما يُوجب أن يكون حُصُولُ الكسوف كان بسبب كثرة الفساد والإجرام , كما كان قد فهمه بعضُ من أخطأَ فَهْمَ هذا الحديث .
ومع هذا البيان , فلا يعني ذلك أننا لا نحث الناسَ على التوبة من الذنوب ، ولا أننا ننفي أثر الطاعة في فتح بركات السماء والأرض وأثر المعاصي في منعها، وأثرها في نزول العقوبات العامة ، كما قال تعالى
(ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)) [الأعراف: ٩٦] . وقال تعالى :كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب)) [آل عمران: ١١] .
لكن ذلك أيضًا لا يعني أن نربط وقوع الكسوف والخسوف بالذنوب والمعاصي , جازِمينَ بذلك الربط أو مغلبين الظن بغير دليل على هذا التغليب . خاصة أن مثل هذا الكسوف أو الخسوف المؤقت , والذي هو في تَـوَقُّتِ غيابِ الشمس أو القمر معه لا يختلف عن غيابهما بالغيم أو الغبار = لا تظهر فيه معاني العقوبة , بل ليس في هذا الغياب المؤقت عقوبةٌ ظاهرةٌ أصلاً ، فلا يصح أن نخلط بينه وبين العقوبات العامة التي تحصل بسبب الذنوب والمعاصي . وبذلك يتبين الخلط الكبير بين النصوص الدالة على أن العقوبات العامة قد تكون بسبب الذنوب وحصول الكسوف والخسوف ؛ لأن الكسوف والخسوف المؤقتين المحسوبين ليسا عقوبتين أصلا , ولا يترتب عليهما الضرر الذي يستحقان به وصف العقوبة .
وبهذا يظهر وجه حصول التخويف بالكسوف والخسوف , ويظهر خطأُ من جعل التخويف بهما دليلٌ على كثرة الذنوب والمعاصي .
هذا والله أعلى وأعلم .
والحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .